أول من آمن بالرسول من الرجال وأول الخلفاء الراشدين، صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، وبذل ماله كله في سبيل الله، ورافق النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها، بويع بالخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حارب أهل الردة والممتنعين عن الزكاة.
كان إسمه في الجاهليّة عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عبد الله، وكان يُقال له: عَتيق، قال رسول الله: «مَنْ سَرّه أن ينظر إلى عتيقٍ من النّار فلينظر إلى هذا».
ولما أُسْرِي بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم إِلى المسجد الأَقصى، أَصبح يُحَدِّث بذلك الناس، فإرتدَّ ناس مِمَّن كان آمن، وفُتِنُوا، فقال أَبو بكر: إِني لأُصدقه فيما هو أَبعد من ذلك أُصدّقه بخبر السماءِ غَدْوَة أَو رَوْحَة، فلذلك سمي أَبو بكر الصدِّيق.
وأَبو بكر كان من رؤُساءِ قريش في الجاهلية، مُحَبَّبًا فيهم، فلما جاءَ الإِسلامُ سَبَقَ إِليه وكان أول من أسلم من الرجال، وأَسلم على يده جماعة لمحبتهم له، حتى إِنه أَسلم على يده خَمْسَةٌ من العشرة المبشرين بالجنة.
وروي أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌّ وَنَظَرٌّ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَّمَ حِيْنَ ذَكَرْتُهُ لَهُ مَا تَرَدَّدَ فِيْهِ»، وهاجر أَبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وصَحِبَه في الغار لما سارا مُهَاجرَيْن، وآنسه فيه، ووقاه بنفسه، وقد كان قبل الهجرة يستأَذنه في الخروج، فيقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «لاَ تَعْجَلْ، لَعَلَّ الله يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا»، فلما كانت الهجرة جاءَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم إِلى أَبي بكر وهو نائم فأَيقظه، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوْجِ»، قالت عائشة: فلقد رأَيت أَبا بكر يبكي من الفرح، ولما خرجا للهجرة، يقول أبو بكر: فلم يدركنا أَحد من المشركين إِلا سُراقة بن مالك، فقلت: يا رسول الله، هذا الطَلَبُ قد لَحِقنا؟ قال: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ الْلَّهَ مَعَنَا»، حتى إِذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رُمح أَو رمحين، قلت: يا رسول الله، هذا الطَّلَب قد لحقنا وبْكيتُ، قال: «لم تبكي؟» قال: قلتُ: والله، ما على نفسي أَبكي، ولكني أَبكي عليك، فدعا عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: «الْلُّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ»، فساخَتْ فرسهُ إِلى بطنها في أَرض صَلْد، وقال سراقة: يا محمد، قد علمتُ أَن هذا عَمَلُك، فادع الله أَن ينجيني مما أَنا فيه، فوالله لأعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائي من الطَّلَب، وهذه كِنَانتي فَخُذْ منها سهمًا، فإِنك ستمر على إِبلي، وغنمي في موضع كذا، فَخُذْ منها حاجتك، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا»، قال: ودعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فَأُطْلِقَ، ومضى رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأَنا معه، حتى قدمنا المدينة، فتلقاه الناس بالبشر في الطرقات.
= مناقبه:
ومن أعظم مناقب أبي بكر قول الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]. وشهد أَبو بكر بدرًا، وأُحدًا، والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودفع رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تَبُوك إِليه رضي الله عنه.
وروى أنس بن مالك عن النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: «أرْحَمُ أمّتي بأمّتي أبو بكر»، وروى عمرو بن العاص قال: قلتُ يا رسول الله أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: «عائشة»، قلت: إنّما أعني من الرّجال، قال: «أبوها».
قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِي وَزِيْرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْسَّمَاءِ، وَوَزِيْرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا وَزِيْرَايَ مِنْ أَهْلِ الْسَّمَاءِ فَجِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمْ وَأَمَّا وَزِيْرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَر».
وروى أَبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ»، فبكى أَبو بكر وقال: وهل أَنا ومالي إِلا لَكَ يا رسول الله؟ وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «لِيُصَلِّ أَبُو بَكْرٍ بِالْنَّاسِ»، قَالُوا: لَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ؟ قَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لأُمَّتِي أَنْ يَؤُمَّهُمْ إِمَامٌ وَفِيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ»، ولما ثَقُلَ المرض على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جاء بِلال يُؤذِنُه بالصلاة فقال: «مرُوا أبا بكر فليصلّ بالنّاس»، فلمّا دخل أبو بكر في الصّلاة وَجَدَ رسولُ الله، صَلَّى الله عليه وسلم، من نفسه خِفّةً فقام يُهادَى بين رَجُلَين، ورِجْلاه تَخُطّان في الأرض حتى دخل المسجد، فلمّا سمع أبو بكر حسّه ذهب يتأخّر، فأوْمَأ إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «قُمْ كما أنْتَ»، فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يصلّي بالنّاس جالسًا وأبو بكر قائمًا يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنّاس يقتدون بصلاة أبي بكر.
= خلافته:
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أنّ رسول الله أمر أبا بكر أن يصلّي بالنّاس؟ قالوا: بَلَى، قال: فأيّكم تطيبُ نفسه أنْ يتقدّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدّم أبا بكر، هو أَول خليفة كان في الإِسلام، وأَول من حج أَميرًا في الإِسلام، فإِن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتح مكة سنة ثمان، وسَيَّر أَبا بكر يحج بالناس أَميرًا سنة تسع.
ولمّا وَليَ أبو بكر خَطَبَ النّاسَ فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ أيّها النّاس قد وَليتُ أمْرَكم ولستُ بخيْرِكم، وَلكن نَزَلَ القُرآنُ، وسنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم السّنَنَ، فعَلّمنا فعَلِمْنا، اعْلَموا أنّ أكْيسَ الكيس التّقوى، وأنّ أحْمَقَ الحُمْق الفُجور، وأنّ أقواكم عندي الضّعيف حتّى آخُذَ له بحقّه، وأنّ أضعفكم عندي القويّ حتى آخذَ منه الحقّ، أيّها النّاس إنّما أنا مُتّبِعٌ، ولستُ بمُبْتَدِعٍ، فإنْ أحْسَنْتُ فأعينوني، وإنْ زُغْتُ فقَوّموني.
وبعدما ولي أمر المسلمين خليفة لرسول الله، أصبح في اليوم التالي غاديًا إلى السوق، وعلى رَقَبَتِهِ أثْوابٌ يَتّجِرُ بها، فلَقِيَهُ عمرُ بن الخطّاب، وأبو عُبيدة بن الجرّاح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تَصْنَعُ ماذا وقَدْ وليتَ أمرَ المسلمينَ؟ قال: فمِنْ أين أُطْعِمُ عِيالي؟ قالا له: انْطَلِقْ حتّى نَفْرِضَ لكَ شَيْئًا، فإنطلق معهما، ففرضوا له كلّ يوم شَطْرَ شاة، وما كسوه في الرأس والبَطْن، فقال عمر: إليّ القضاء، وقال أبو عُبيدة: وإليّ الفَيْءُ، قال عمر: فلقد كان يأتي عَليّ الشّهْرُ ما يَخْتَصِمُ إليّ فيه اثْنَان -كناية عن عدل أبو بكر رضي الله عنه حيث إختفت الخصومات في عهده بين الناس.
= الفتوحات في عهده:
حارب أبو بكر المرتدين ومانعي الزكاة وأغلظ عليهم، وما إن إنتهت حروب الردة وإستقرت الأمور في شبه الجزيرة العربية حتى شرع خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجهيز الجيوش للتحرك خارج شبه الجزيرة العربية لنشر دين الله عز وجل، فأرسل خالد بن الوليد والمثنى بن حارث الشيباني إلى العراق، وخالد بن سعيد بن العاص على رأس جيش إلى بلاد الشام، وعمرو بن العاص إلى فلسطين، وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان إلى الأردن، وكانت هذه الجيوش هي الطليعة التي إعتمد عليها عمر بن الخطاب بعد ذلك وإستكمل ما بدأه أبو بكر رضي الله عنه.
= مرضه:
كان أوّلُ بَدْءِ مرض أبي بكر، أنّه إغتسل في يوم باردٍ فحُمّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بن الخطّاب يصلّي بالنّاس، ويَدْخُلُ النّاس عليه يعودونه، وهو يثقل كل يومٍ، وكان عثمان ألْزَمَهُم له في مرضه، ولما دخلوا على أَبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله، أَلا ندعوا لك طبيبًا ينظر إِليك؟ قال: قد نظر إِليَّ، قالوا: ما قال لك؟ قال: إِني فعال لما أُريد.
وعن عائشة قالت: ما ترك أبو بكر دينارًا، ولا درهمًا، وقالت: لمّا حُضِرَ أبو بكر قلتُ كلمةً من قول حاتم: لَعمرُكَ ما يُغني الثراءُ عن الفَتى إذا حشرَجتْ يوْمًا وضاقَ بها الصدرُ فقال: لا تقولي هكذا يا بُنيّة، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19]، وكان رضي الله عنه يقول: وَدِدْت أني خضرة تَأكُلُني الدّواب.
ولما اشتد المرض به دعا عبد الرّحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطّاب، فقال: ما تَسْألني عن أمر إلا وأنت أعلم به منّي، فقال أبو بكر: وإنْ، فقال عبد الرّحمن: هو والله أفْضَلُ من رأيك فيه، ثمّ دعا عثمان بن عفّان فقال: أخْبِرْني عن عمر، فقال: أنت أخبرُنا به، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللّهُمّ عِلْمي به أنّ سريرته خير من علانيته، وأنّه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تَرَكْتُه ما عَدَوْتُك، وشاوَرَ معهما سعيد بن زيد أبا الأعور، وأُسَيْدَ بن الحُضَير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، وسَمعَ بعضُ أصحاب النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بدخول عبد الرّحمن وعثمان على أبي بكر وخَلْوَتِهِما به، فدخلوا على أبي بكر، فقال له قائلٌ منهم: ما أنت قائلٌ لربّك إذا سألك عن إستخلافك عُمَرَ علينا، وقد تَرى غِلْظَتَه؟ فقال أبو بكر: أجْلِسوني، أبالله تُخَوفوني؟ خابَ مَنْ تَزَوَّد من أمركم بظُلم، أقولُ: اللّهمّ إستخلفتُ عليهم خير أهلك، أَبْلِغ ما قلت لك مَنْ وَرَاءَك.
وقال رضي الله عنه حين حَضَرَه الموت: كفّنوني في ثوبيّ هذين اللّذين كنتُ أصَلّي فيهما وإغسلوهما فإنّهما للمُهْلة والتراب، وقد صلي عليه رضي الله عنه عمر بن الخطاب بين القبر والمنبر.
وأوصى أبو بكر عائشةَ أن يدْفَنَ إلى جَنْبِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلمّا توفّي حُفر له وجُعل رأسُه عند كَتِفَيْ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رحمه الله مساء ليلة الثلاثاء لثمّاني ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من هجرة النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فكانت خلافته سنتين وبضعة أشهر.
المصدر: موقع صحابة رسول الله.